يشكل الحظر الدستوري الوارد في المادة (98) من الدستور العراقي والذي ينص ( يحظر على القاضي وعضو الادعاء العام في الفقرة ثانيا منها : الانتماء إلى أي حزبٍ أو منظمةٍ سياسية، أو العمل في أي نشاط سياسي) والحظر لغة يعني المنع، والمادة المذكورة جاءت متسقة مع المواد الدستورية الخاصة بتنظيم السلطة القضائية والعمل القضائي وتتمة لرؤية المشرع الدستوري في المحافظة على استقلالية القضاء وروح العدالة باعتباره المرجع والملاذ في حسم النزاعات التي تحدث والتي قد يكون النظام السياسي طرفا فيها والعمل السياسي وقبله العمل التجاري لا يستقيم مع الاستقلالية والحياد التي تتمتع بها السلطة القضائية والقضاة فالقضاة مستقلون في قراراتهم لا سلطان عليهم في احكامهم لغير القانون.
وعلى ضوء الحظر الدستوري تضمن قانون الاحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015 في شرائطه القانونية منعاً لعضو السلطة القضائية من تأسيس حزب سياسي او الانتماء اليه في المواد 9 / خامساً و10 /ثالثاً منه ، وقد بين قانون الاحزاب المذكور المقصود بالحزب او التنظيم السياسي فنص في المادة 2 / اولا ً ( هو مجموعة من المواطنين منضمة تحت اي مسمى على اساس مبادئ واهداف ورؤى مشتركة تسعى للوصول الى السلطة لتحقيق اهدافها بطرق ديمقراطية بما لا يتعارض مع احكام الدستور والقوانين النافذة) والنظام السياسي واحد من انظمة المجتمع الاخرى كالنظام الاقتصادي والقانوني والثقافي ويتكون من مجموعة من العناصر تديره سلطة سياسية ، والدولة في لغة السياسة لها معنيين : ففي المعنى الضيق تعتبر مؤسسة سياسية تملك وسائل قسر لإطاعة اوامرها وبالمعنى الواسع : هي التعبير الرسمي عن المجتمع ، وكثيراً ما استخدم مفهوم الدولة مرادفا ًللنظام السياسي ولا نغالي ان قلنا ان النظام السياسي في الكثير من بلدان العالم يبتلع الدولة ،وبالنتيجة يمكننا طرح السؤال التالي : هل ان ابداء القاضي للرأي سياسي يدخل ضمن المحظورات الواردة في الدستور والقانون ويعتبر نشاطا ً سياسيا ام ان هذا الرأي يدخل في باب حرية التعبير عن الرأي والحق في الخصوصية ومن عناصر هذه الخصوصية الآراء السياسية للشخص والتي كفلها الدستور ..؟
ربما نتفق على ان الرأي السياسي هو عماد العمل السياسي فلا يتصور ان يقوم شخص بتأسيس حزب او الانتماء اليه دون ان يكون له رأي سياسي تحول الى مبدأ سياسي والى ايديولوجية سياسية لها اهدافها ومتبنياتها وانتهت الى تنظيم وقواعد وعلاقات سياسية تسعى الى تحقيق اهدافها عبر الوصول الى السلطة وبالطرق القانونية ، ولكننا لا يمكن ان تصور ايضاً ان كل رأي سياسي هو نشاط وعمل سياسي فالدستور وهو الهرم القانوني الذي تصطف خلفه القوانين لتكسب مشروعيتها،: هو وثيقة سياسية قانونية والسلطة التشريعية والتنفيذية تتضمن بجلها اشخاص يمارسون العمل السياسي بل ان البرنامج الوزاري والذي حدد السياسة العامة للدولة والتي يضعها رئيس الوزراء في الدول الديمقراطية ومنها العراق لابد ان يتم اقرارها من قبل مجلس النواب والذي يتضمن رؤيته في تعزيز عمل مؤسسات الدولة ومنها السلطة القضائية والمنهاج الوزاري المصادق عليها لابد ان يتناغم مع الرؤى السياسية للأحزاب الحاكمة، فعليه لا يمكن اعتبار كل رأي سياسي هو عمل سياسي، فالدستور ضمن للمواطنين كافة ممارسة الحقوق السياسية ومنها حق التصويت والترشح لمجلس النواب العراقي وليس هناك نص قانوني يمنع القاضي او المحكمة من إبداء الرأي السياسي فهو لا يعتبر بذاته اشتغالا بالسياسة كما يرى ذلك قانون السلطة القضائية المصري رقم (46) لسنة 1972 في المادة (73) والذي ينص في الفقرة الاولى (يحظر على المحاكم ابداء الآراء السياسية ) وفي الفقرة الثانية (يحضر كذلك على القضاة الاشتغال بالعمل السياسي، ولا يجوز لهم الترشح لانتخابات مجلس الشعب او الهيئات الاقليمية او التنظيمات السياسية الا بعد تقديم استقالاتهم ) وعليه فقد اعتبر القضاء الفرنسي ان اراء المواطن السياسية المحمية عن طريق سرية التصويت تعتبر من امور الحياة الخاصة فلا يجوز الكشف عنها بغير اذنه لذلك قضى بان نشر صورة شخص في اعلانات دعائية لاحد الاحزاب السياسية بصورة تثير الاعتقاد بان الشخص ينضم الى هذا الحزب يعتبر مساسا بالحياة الخاصة ، وقد أصدر المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي سنة 2010 ميثاقا يتعلق بمدونة السلوك القضائي تضمن التأكيد على الالتزامات الأخلاقية للقضاة مع التأكيد على حرية القاضي في ابداء رايه جاء فيه، ( أن القاضي ملزم بالحفاظ على صورة العدالة ويجب عليه دائما، أن يعطي المثال والقدوة على الاحتراز، أثناء ممارسته لحقه في التعبير، وذلك من أجل عدم تعريض نزاهة و صورة العدالة ومصداقيتها للثقة العامة، ويمنع عليه أيضا انتقاد الاحكام والقرارات التي يصدرها زملاؤه، كما يتعين عليه استحضار هذه الضوابط والالتزامات أثناء إصداره لمذكراته الخاصة بمساره المهني، ومنع الميثاق على القضاة إبداء أي مظاهر عدائية ضد الحكومة، أو القيام بتصرفات ذات طبيعة سياسية تتعارض مع واجب التحفظ المفروض عليهم، لكنه من جهة أخرى، نص على أن واجب التحفظ لا يشمل منع القضاة من المشاركة في إعداد النصوص القانونية وتحليل مقتضياتها بكل حرية.
فحرية التعبير الخاصة بالقضاة ليست مطلقة ، وأنه إذا كان للقاضي الحرية الكاملة لإبداء رأيه، فإنه يتعين عليه دائما أن يستحضر مبدأ الحياد ، وأن يكون حذرا أثناء التعبير عن رأيه بشكل لا يظهر موقفه من القضايا التي تكون محل نزاع ، كما يتعين أن يتحلى بواجب التحفظ في تعامله مع وسائل الإعلام، ويمنع عليه التعليق على قراراته حتى و لو تم انتقادها من طرف الصحافة أو تم إلغاؤها من طرف المحكمة الأعلى درجة . ان اخذ الامر على علاته واطلاق المحظور الدستوري على ابداء الآراء السياسية يثير الكثير من الاشكاليات القانونية وبخاصة ان قانون التنظيم القضائي العراقي النافذ رقم 160 لسنة 1979 المعدل لم يتضمن الحظر الوارد في قانون السلطة القضائية المصري بل ان القانون وقبل التعديل وفي اسبابه الموجبة واهداف القانون كان سياسيا بامتياز فقد ربط تحقيق العدل بروح تستوعب التحولات السياسية لمرحلة النظام السابق اضافة الى ان القضاء برمته خاضع لهيمنة السلطة التنفيذية والحقيقة ان القانون بحاجة الى تعديل او تشريع قانون جديد ينظم عمل القضاة في ظل استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية ويكون معززا لقوانين السلطة القضائية النافذة.
يضاف الى ذلك ان طبيعة عمل القضاء الدستوري والقضاء الاداري كثيرا ما تتضمن القرارات والاحكام الدستورية والادارية التي يصدرها القضاءان اراء سياسية في مواضيع سياسية تتعلق بالنزاع المعروض امامهما، لقد ضمنت المواثيق واللوائح القانونية الدولية للقاضي الحرية في التعبير عن رأيه كأي مواطن آخر لكنها حرية مقيدة فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفصل الثامن منه على أنه يحق لأعضاء السلطة القضائية، شأنهم في ذلك شأن المواطنين الآخرين، التمتع بحرية التعبير والاعتقاد والانتساب والتجمع، شريطة أن يتصرف القضاة دائماً في ممارستهم لهذه الحقوق على نحو يحافظ على هيبة ووقار مناصبهم وعلى نزاهة واستقلال السلطة القضائية”، ولم يخرج الميثاق الأوروبي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الذي تم إقراره من طرف مجلس أوروبا على ذلك ، فقد نص على وجوب امتناع القضاة عن أي فعل أو سلوك أو تعبير من شأنه ان يؤثر على الثقة في حيادهم أو استقلالهم، كذلك مبادئ (مجلس بيرغ) بشأن استقلال السلطة القضائية الدولية، فقد اكد أن القضاة يتمتعون بحرية التعبير وتكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية أو تنال من حياد ونزاهة القضاء، وأنه يتعين عليهم أن يكونوا متحفظين في التعليق على الاحكام أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه، ويتخذون مسلكا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء “، أما وثيقة مبادئ بنغالور بشأن السلوك القضائي ، فقد نصت على أن للقاضي كأي مواطن عادي الحق في حرية التعبير بما لا يتعارض مع أحكام القانون ومع واجباته الوظيفية وبطريقة يحافظ بها على هيبة الوظيفة ونزاهة القضاء ولم يذهب الدستور العراقي بعيدا عن رؤى المفاهيم والمواثيق الدولية فقد نص في باب الحقوق والحريات الفصل الاول (الحقوق ) وفي الفرع الاول _الحقوق المدنية والسياسية _ المادة (14) التي نصت على ان (العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي ) وان لكل فرد الحق في الحياة والامن والحرية ولا يجوز الحرمان منها او تقييدها الا وفقا للقانون او بناء على قرار جهة قضائية مختصة بحسب المادة (15) من الدستور ولكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الاخرين و الآداب العامة كما جاء في المادة (17) ايضا ً ، وفي باب الحريات في الفصل الثاني اعتبرت المادة (37/ اولا ً/أ ) من الدستور(حرية الانسان وكرامته مصونه ) وفي المادة (38) تكفلت الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل في الفقرة (اولا ً) وحرية الصحافة والطباعة والاعلان والنشر في الفقرة (ثانيا ) في حين ضمنت الفقرة (ثالثا ) من المادة المذكورة حرية الاجتماع والتظاهر السلمي ) وفي المادة (42) من الدستور تم ضمان حرية الفكر والضمير والعقيدة ،وكل تلك هي حقوق وحريات مكفولة للجميع لا تستثني احدا ولعل الضمانة المهمة لحرية القاضي في التعبير عن رأيه بشكل عام تتمثل باستقلالية السلطة القضائية في المادة (87) من الدستور واستقلالية القاضي وعدم التدخل في القضاء وشؤون العدالة المادة (88 ) منه.