يتطلب لحماية الحقوق والحريات وجود العدالة، وهذه الأخيرة لا تتجسد بصورة الحقيقة القضائية إلا بسلامة الاحكام التي تضمنتها، سواء اكانت مدنية ام جزائية ام غيرها، وعلى اساس ذلك اعتد المشرع العراقي في مجال الاثبات، بإرادة القاضي للوصول اليها، اذ منحه سلطة تقديرية، لتقدير حجية الدليل المعروض امامه في الاثبات وتحديد مدى صلاحيته في الحكم من عدمه، وفي ذلك دلالة واضحة على حسن ظن المشرع بالقاضي من حيث صفاء ضميره وحسن سريرته وسلامة نفسيته وتكوينه وإعداده بالشكل الصحيح والسليم من خلال المؤسسة القضائية التي ينتمي اليها.
وعلى اساس ما تقدم فأن نجاح تفعيل سلطة القاضي وصلاحياته في تقدير الأدلة يرتبط ارتباطا كبيرا بمدى وعيه واستيعابه لغايات المشرع من منحه تلك السلطات والصلاحيات، التي تكمن في تمكينه من إدراك الحقيقة الواقعية، وصولا الى الحقيقة القضائية، التي هي الهدف الاسمى الذي يسعى اليه القاضي في احكامه والقانون في مواده، فكلما غابت عنه هذه الغاية، كان قراره عرضة للانحراف والتحكم والنقض، ولذا فالحقيقة القضائية التي ينطق بها قرار الحكم يجب ان يكون من شانها اقناع الخصوم والرأي العام، وعلى اساس ذلك فالحقيقة القضائية لا يخضع الكشف عنها للارتجالية والعفوية التي غالبا ما تؤدي الى الخطأ، وإنما يخضع لمنهج علمي رصين من شأنه أن يعصم القاضي من الخطأ او على الأقل الحد منه ومن جسامته.
وتعرف الحقيقة القضائية بأنها: ما يثبته القاضي في حكمه نتيجة لتحريه حقيقة الوقائع، كما تعرف بأنها : المعرفة التي يتم التوصل اليها من خلال اتباع مجموعة من الاجراءات نص عليها المشرع عبر مراحل الدعوى المختلفة، في محاولة لتطابق المعرفة مع الواقع، ولذا يقال ان القاضي في فحصة للدعوى وأثناء نظره لها يبحث عن الحقيقة الواقعية وصولا للعدالة المنشودة، والحقيقة القضائية ينبغي ان تكون مطابقة قدر الإمكان للحقيقة الواقعية، إلا انه قد يحدث بون شاسع بينهما، إذ قد يكون الحق موجودا بالواقع ولكن لا يوجد دليل مقبول يؤكد وجوده أمام القضاء، او يوجد دليل ولكنه لا يكفي لبناء حكم قانوني سليم رصين ومتكامل، يمثل الحقيقة القضائية المطابقة للواقع، ولذا يصدر حكم يمثل الحقيقة القضائية، لكنه بعيدا عن الحقيقة الواقعية لانعدام الدليل او نقصه، وعلى اساس ذلك يتصور البعض واهما انحراف الحقيقة القضائية عن مسارها الصحيح، متناسيا ان الادلة الداعمة للحقيقة الواقعية ليست بالمستوى الكافي لتحقيق التطابق التام بين الحقيقتين، وان العدالة القضائية مقيدة بالأدلة التي تصلح ان تكون سببا للحكم.
كما ان القاضي لا يستطيع الحكم بعلمه الشخصي في الحقيقة الواقعية بحكم القانون، اذ لا يصح ان يكون قاضيا وشاهدا في وقت واحد، وان ذلك لا يمثل قصورا في نظام التقاضي، وإنما قصورا في الادلة التي يجب ان تتوافر بصيغتها القانونية المقنعة، لدعم الحقيقة الواقعية، حتى تأخذ شكلها القانوني والقضائي السليم المتجسد بالحقيقة القضائية التي ينطق بها قرار الحكم، وعلى اي حال فالحقيقة القضائية بما تحمله من عدالة، التي يتضمنها الحكم الصادر من المحاكم المختصة استنادا للأدلة المتوافرة والسلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي المختص او محكمة الموضوع، اذا ما اكتسبت حجية الامر المقضي به، تعد عنوانا للحقيقة بصورتها المطلقة استنادا لحجيتها المطلقة في الاثبات بما فصلت فيه من الحقوق بين المتخاصمين،اذا اتحد الاطراف ولم تتغير صفاتهم وتعلق النزاع بذات الحق محلا وسببا في الدعوى، اذ لا يجوز قبول دليل ينقض حجيتها.
فالحقيقة في مفهومها العام تشمل كل ما يتعلق بالوقائع المعروضة على القاضي، لا حكم القانون، ذلك ان علم القاضي بالقانون يعد امرا مفترضا، ولا يحتاج الى دليل لإثباته، ولاسيما ان المشرع منح القاضي مجالا واسعا في سبيل كشف الحقيقة، فالقضاء يفترض فيه ان يكون محايدا، لا يبتغي مصلحة شخصية من خصومة المتخاصمين، وبالتالي يكون القاضي مكلفا بحكم القانون ان يفرض على اطراف الخصومة القول الحق بعد ما يستخلصه نقيا من الادلة، تحقيق العدالة في ارقى صورها، إلا ان تحقيق العدالة بذاته مرهون بإدراك الحقيقة الواقعية استنادا للدليل بعد ان يتم تقيمه، فالغاية من الاثبات تكمن بالوصول الى الحقيقة الواقعية التي لا تنكشف من تلقاء ذاتها، وإنما تتويج لمجهود شاق وبحث طويل منهجي منظم للارتقاء بها الى مستوى الحقيقة القضائية.
ان تقريب البون بين الحقيقتين ( الواقعية والقضائية ) للوصول الى الحكم العادل، لا يتطلب تطوير العمل القضائي، لتكامل المؤسسة القضائية من حيث الاعداد والتدريب والمؤهلات بالشكل الذي يمكنها من تقدير الادلة وتقيمها بصورة صحيحة وصولا للحقيقة القضائية بما تحمله من عدالة، وإنما يتطلب ذلك تطوير الوعي القانوني لدى افراد المجتمع ووجود نظام قانوني و امني متكامل، عالي المستوى، من حيث الامكانيات والقدرات والتدريب ولاسيما الاجهزة الامنية ورجال الشرطة وأعضاء الضبط القضائي، لاختصاصهم الدقيق في البحث السريع والدقيق عن الجرائم ومرتكبيها وضبطهم وتقديم الادلة الكافية لإدانتهم، الى القضاء، وعلى الجهات الاعلامية كافة إدراك ما تقدم والإفصاح عنه بوسائل الاعلام المختلفة لنشر الوعي القانوني بين المواطنين من خلال توضيح مفهوم الحقيقة القضائية وما تتضمنه من عدالة، اذا ما اكتسبت حجية الامر المقضي فيه بعدها عنوانا للحقيقة المتجسدة في صيغة الحكم القضائي.